القائمة الرئيسية

الصفحات

اخر الاخبار

امرأة وثلاث قطط •• ودار مظلمة لا يعرف لها النور منفذاً ولا طريقاً ، الشمس لم تدخلها قط ، والهواء نفس الهواء • والرطوبة القاتلة ، والأرض التي تنشع ، والسقف الذي هار والجدران المتهافت يوماً بعد يوم •• امرأة الوحشة تلفها ، والوحدة تضيق عليها •• والقطط طوافات حولها •• تارة ينظرن إلى خلقتها في شزر ، وتارة يطلقن مواء غريباً مخيفاً ، وأحياناً يقفزن إلى حجرها •• يتشممن تلك الرائحة الكريهة المنبعثة من ثيابها وجسدها • امرأة عجوز •• تقبع في زاوية قرب باب الدار •• تبحث عن نور •• وأنى لها النور وهي في هذه الغرفة الزنزانة ؟! البيت كبير ولا يحوي غير هذه الغرفة ، وباحته واسعة في الخارج ، ولكنها تضيق عليها في الداخل ، وجداره عالٍ يسترها عن أولئك العمال الهنود الذين يجاورونها•• يثيرون الجلبة والضوضاء بأغانيهم الصاخبة، ولغتهم التي لا تفهم منها حرفاً • تسمع كل شيء ولا تعي أي شيء، وكلما ضعف هذا البصر قوي ذاك السمع ، فلا يكاد أحد يقرب بابها ، أو يحركه بيده •• حتى تتحرك في توجس •• وتقترب أكثر من فتحة الدار •• الدار التي تطوقها ، وتحاول أن تتبين من القادم قبل أن يصل فتسمع صوته عن قرب •• امرأة والفضول يكاد يقتلها ، والرغبة في الخروج توشك أن تقضي عليها ، إنها تتوق للنفاذ من هذا القبر ، وتشتهي أن تسير مع الجارات ، وبخاصة تلك العجوز التي تقطن مقابل بيتها ، أدركتها مرة في أثناء خروجها •• وقد توكأت على عكازتين ، شهدتها وهي تخرج من بيت وتدخل في بيت • فزفرت نفساً حاراً ملتهباً •• - إنها أحسن مني علي أي حال •• لأنها تخرج •• بينما أنا •• آه يا للخيبة •• امرأة لا يعرفها أحد غير هذه القطط المزعجة •• أخ •• اللعنة •• ألم تجد هذه العيون الغاضبة •• غير بيتي مرتعاً وملعباً ؟ ما أكثر ما حملت هذه القطط بقايا عظام من سمك وغيره •• وجـرت به في داخل المنزل حتى تلقي بما يتفضل منه عند عتبة الدار ، حيث تشم الرائحة • وتتحسس بأصابعها ، تمسح الأرض •• تدخل قبضتها بين الزوايا فلا تجد شيئاً البتة ، إنما تزكمها الرائحة ، زفر السمك يملأ خياشيمها •• وتصطدم قبضتها بـ "حِبّ الماء" •• هذا الماء الذي تأتي به من حنفية بالخارج •• فتبقيه فترة طويلة ، حتى يبرد •• وتشرب منه ، تشرب وتشرب ولا طعام • وتنتظر •• وترتقب •• وتتأهب •• فلا زائر ولا طارق •• وذات يوم فكرت في الخروج من قوقعتها ، خالت أن هذا القبر المخيف لفظها ، قذفها خارج هذا البيت الذي ما اتسع إلا ليضيق عليها العيش ، ويحرمها الهواء والنور •• وخرجت •• يغالبها الإعياء والهزال •• وعند الباب المنهار وبعد أن خطت بضع خطوات ثقيلة مترددة •• رزحت في حفرة لا تقوى على الحراك ، والتصقت بالأرض وراحت تولول : - تبّاً لهؤلاء الشياطين •• عيال آخر زمن •• لا يتركون الفقير وشأنه • وبقيت غاضبة وزادها غضباً تلك القطط الثلاث •• لحقن بها •• قطة تثب أمامها •• وآخرى تسابقها في المشي ، وثالثة تتعلق بثوبها ، وبأجزاء ممزقة من عباءتها الرثة •• وأخيراً توقفت العجوز في تخبطها •• وقالت زجراً : - تت •• تت •• اللعنة على هذه القطط العنيدة • بعدها كانت تتابع سيرها الوئيد في ذلك الزقاق الضيق ، ولكنها لم تكن لتخلص من ضيق إلا إلى ضيق ، وبئس ما فعلت إذ خرجت من دارها • وقد قالت حين وقع المحظور : - ويه •• ويه •• لست كفئاً للخروج ، غيري يخرج نعم •• ولكن أنا لا •• لقد عادت •• ولكن مسنودة تسحب قدميها ، وقد ألقت بجسمها الناحل على صدر فتاة جاوزت العشرين من عمرها ، قيضها الله لتوصلها إلى حيث تبقى •• وتبقى إلى الأبد • في ذاكرة الفتاة ، وفي ذاكرة الناس • ذاكرتهم فقط • ولكنه يوم كان كالفتح المبين •• فقد شهدت الفتاة ذلك البيت •• والدار •• والقطط اللاهثة •• وبقيت المرأة في الذاكرة • ربتت الفتاة على ظهر العجوز وقالت : - لا تتركي دارك يا أم جسّار •• إياك أن تفعلي ذلك ، وسوف أنقل اسمك إلى الجمعية •• جمعيتنا •• - جمعية •• ماذا فعلت ؟! أف •• ليتني ما خرجت •• وتضحك الفتاة •• وتتابع : - سيصلك العون •• وأعدك •• غداً سيكون لديك غداء ، نعم ستتناولين غداء كل يوم • وتنتظر أم جسّار •• ويقوى سمعها حتى لا تفوتها طرقة على باب ، أو صرخة من وراء جدار • امرأة •• والبيت كبير •• والدار مظلمة •• والقطط شريكة •• والجوع كافر •• امرأة ولا رجل •• رحل الرجل •• ولا أولاد •• فمن "جسّار هذا" ؟! لا أحد يعرف •• لم تتحدث عنه قط •• ولم تذكره في حديث أو غيره • وتطول غيبة الراحل •• حتى لتكاد تنسى أنها تزوجت يوماً ما •• من أيام الكون • أوه •• يوم ما •• في ذاكرتها محفور •• عجيبة هذه الذاكرة •• لكم كانت تسترجع فيها ذلك اليوم فتشعر بالنشوة والجذل ، ولكنها تخونها الآن •• تخونها تماماً •• فتمحو ذلك اليوم •• تطمسه •• وتمر الأعوام •• أعوام مريرة عاشت فيها على الهامش من الحياة •• عاشت في ذاكرة الناس وليس في قلوبهم ، عاشت على كلمة طيبة حيناً ، وخبيثة في أحيان كثيرة •• وبقيت على صدقة تتبعها المنة في أغلب الأوقات• وعبثاً تنتظر أم جسّار •• وتنتظر معها القطط الثلاث في مواء غريب مخيف •• وفي ظهيرة يوم •• طُرق الباب طرقتين ، وسمعت على إثر ذلك الطرق خطوات سريعة ، بعدها شعرت بفتاة تقف على عتبة الدار وتنادي : - أم جسّار •• أنت هنا ؟! هذا غداؤك • ومدت أم جسّار ذراعين طويلين نحيفين ، ثم فتحت كفين مرتعشين فحوت الطبق •• قالت في رجاء : - انتظري •• لتأخذي الطبق •• سأفرغه فيما عندي • وحين تراجعت الخطوات السريعة •• وأقفل الباب المنهار ، كانت المرأة تبحث عن الغداء الذي أفرغته •• وتزحف •• تتحسس بقبضتيها اللاهثتين •• وعند العتبة من الخارج •• كانت قططها الثلاث تلتهم •• وتلتهم •• وقد انقطع مواؤها


تعليقات